كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ: (إنْ تَطَاوَلَ أَوْ تَشَاغَلَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ مِنْ أَوَّلِهِ).
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ} الْآيَةُ فَإِذَا أَتَى بِالْغَسْلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهُ فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْآيَةِ، وَلَوْ شَرَطْنَا فِيهِ الْمُوَالَاةَ وَتَرْكَ التَّفْرِيقِ كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي النَّصِّ، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وَالْحَرَجُ الضِّيقُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمَقْصِدَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ وَنَفْيُ الْحَرَجِ، وَفِي قَوْلِ مُخَالِفِينَا إثْبَاتُ الْحَرَجِ مَعَ وُقُوعِ الطَّهَارَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} الْآيَةُ، فَأَخْبَرَ بِوُقُوعِ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمُوَالَاةِ، فَحَيْثُمَا وُجِدَ كَانَ مُطَهِّرًا بِحُكْمِ الظَّاهِرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَمَعْنَاهُ مُطَهِّرًا، فَحَيْثُمَا وُجِدَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمَهُ؛ وَلَوْ مَنَعْنَا الطَّهَارَةَ مَعَ وُجُودِ الْغَسْلِ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ كُنَّا قَدْ سَلَبْنَاهُ الصِّفَةَ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ كَوْنِهِ طَهُورًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدِّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اغْتَسَلْت مِنْ الْجَنَابَةِ وَصَلَّيْت الْفَجْرَ فَلَمَّا أَصْبَحْت رَأَيْت بِذِرَاعَيَّ قَدْرَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ مَسَحْت عَلَيْهِ بِيَدِك أَجْزَأَك» فَأَجَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ بَعْدَ تَرَاخِي الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنَافِ الطَّهَارَةِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ».
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ».
وَالتَّفْرِيقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَضَعَهُ مَوَاضِعَهُ لِأَنَّ مَوَاضِعَهُ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهِ الْمُوَالَاةَ وَتَرَكَ التَّفْرِيقَ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ: «حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّتَابُعَ، فَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مِنْ تَفْرِيقٍ أَوْ مُوَالَاةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أَمْرًا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا عَلَى الْفَوْرِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ اسْتَقْبَلَ؛ إذْ لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورُ بِهِ.
قِيلَ لَهُ: الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ عَلَى الْمُهْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الْوُضُوءِ رَأْسًا لَا تَفْسُدُ طَهَارَتُهُ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوَامِرِ الَّتِي لَيْسَتْ مُوَقَّتَةً فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَقْتِ الْأَمْرِ بِهَا لَا يُفْسِدُهَا إذَا فَعَلَهَا وَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا؛ وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَوْلَى وَذَلِكَ لِأَنَّ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفَوْرِ قَدْ صَحَّ عِنْدَنَا جَمِيعًا وَتَرْكُهُ لِغَسْلِ بَاقِي الْأَعْضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الْأَوَّلِ وَلَا تَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ، لِأَنَّ فِي إيجَابِ إعَادَتِهِ إبْطَالُهُ عَنْ الْفَوْرِ وَإِيجَابُ فِعْلِهِ عَلَى التَّرَاخِي، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا عَلَى حُكْمِهِ فِي صِحَّةِ فِعْلِهِ بَدِيًّا عَلَى الْفَوْرِ.
وَاحْتَجَّ أَيْضًا الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ» قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُتَابَعَةِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا دَعْوَى، وَمِنْ أَيْنَ لَك أَنَّهُ فَعَلَهُ مُتَتَابِعًا؟ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَسَلَ وَجْهَهُ فِي وَقْتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ بَعْدَ سَاعَاتٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَعْضَائِهِ لِيُفِيدَ الْحَاضِرِينَ حُكْمَ جَوَازِ فِعْلِهِ مُتَفَرِّقًا، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ تَابَعَ لَمْ يَدُلَّ قَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّتَابُعِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (هَذَا وُضُوءٌ) إنَّمَا إشَارَةٌ إلَى الْغَسْلِ لَا إلَى الزَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ بَعْضُهُ مَنُوطًا بِبَعْضٍ حَتَّى لَا يَصِحَّ لِبَعْضِهِ حُكْمٌ إلَّا بِجَمِيعِهِ أَشْبَهَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ مَنُوطٌ بِبَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ بَطَلَ إحْرَامُهُ وَطَوَافُهُ الَّذِي قَدَّمَهُ وَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُتَابَعَةُ أَفْعَالِهِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِغَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ حُكْمٌ دُونَ بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِذِرَاعِهِ عُذْرٌ لَسَقَطَ فَرْضُ طَهَارَتِهِ عَنْهُ؟ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ جَمِيعُهَا أَوْ يَثْبُتَ جَمِيعُهَا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يُمْكِنُ فِعْلُهَا، فَمِنْ حَيْثُ جَازَ سُقُوطُ بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ أَشْبَهَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَسَائِرَ الْعِبَادَاتِ إذَا اجْتَمَعَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ تَفْرِيقُهَا عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا لَزِمَ فِيهَا الْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهَا بِتَحْرِيمَةٍ وَلَا يَصِحُّ بِنَاءً أَفْعَالُهَا إلَّا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، فَمَتَى أَبْطَلَ التَّحْرِيمَةَ بِكَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بِنَاءً بَاقِي أَفْعَالِهَا بِغَيْرِ تَحْرِيمَةٍ، وَالطَّهَارَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيمَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي أَضْعَافِهَا الْكَلَامُ وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ وَلَا يُبْطِلُهَا ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا شَرَطَ فِيهِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَدَمَ جَفَافِ الْعُضْوِ قَبْلَ إتْمَامِ الطَّهَارَةِ وَجَفَافُ الْعُضْوِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُكْمِ رَفْعِ الطَّهَارَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ جَفَافَ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ لَا يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِهَا؟ كَذَلِكَ جَفَافُ بَعْضِهَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا تَشْبِيهًا صَحِيحًا وَقِيَاسًا مُسْتَقِيمًا لَمَا صَحَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ بِالْقِيَاسِ فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ هَهُنَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الشَّمْسِ وَوَالَى بَيْنَ الْوُضُوءِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَجِفُّ الْعُضْوُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ الْآخَرَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بُطْلَانَ الطَّهَارَةِ، كَذَلِكَ إذَا جَفَّ بِتَرْكِهِ إلَى أَنْ يَغْسِلَ الْآخَرَ.
وقَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الْوُضُوءِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ لِأَنَّهُ أَبَاحَ الصَّلَاةَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَآهَا فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ، فَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فَعَلَّقَ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ بِالْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ شَرْطًا فِيهِ، فَمَنْ شَرَطَهَا فَهُوَ زَائِدٌ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا وَنَافٍ لِمَا أَبَاحَتْهُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِوُجُودِ الْغَسْلِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ» وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ التَّسْمِيَةَ؛ وَقَدْ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الطَّهَارَةَ فِي الصَّلَاةِ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ وَقَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ». إلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّسْمِيَةَ؛ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ التَّسْمِيَةَ فَرْضًا فِيهِ، وَقَالُوا: هَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَرْضًا فِيهِ لَذَكَرُوهَا وَلَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُتَوَاتِرًا فِي وَزْنِ وُرُودِ النَّقْلِ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الْمَفْرُوضِ طَهَارَتُهَا، لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ».
قِيلَ لَهُ: لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ، فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَا، وَالْآخَرُ أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيمَا عَمَّتْ الْبَلْوَى بِهِ، وَإِنْ صَحَّ احْتَمَلَ أَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ لَا نَفْيَ الْأَصْلِ، كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» و«مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْحَدَثُ يُبْطِلُهُ صَارَ كَالصَّلَاةِ فِي الْحَاجَةِ إلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ.
قِيلَ لَهُ: قَوْلُك إنَّ الْحَدَثَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ غَلَطٌ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ إذَا سَبَقَهُ وَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي؛ وَأَيْضًا فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي حَاجَةِ الصَّلَاةِ إلَى الذِّكْرِ أَنَّ الْحَدَثَ يُبْطِلُهَا وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيهَا، وَأَيْضًا نَقِيسُهُ عَلَى غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ طَهَارَةٌ، وَأَيْضًا فَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى إنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ؛ فَبَطَلَ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ يَسْتَوِي فِي بُطْلَانِهَا تَرْكُ ذِكْرِ التَّحْرِيمَةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَمَا أَسْقَطَهَا النِّسْيَانُ؛ إذْ كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ شَرَائِطِهَا الْمَذْكُورَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَأَنَّ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ مَعَ تَرْكِهِ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَوْضِعَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَأَجَازَ أَصْحَابُنَا صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فِي تَرْكِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: (لَا يُجْزِيهِ إذَا تَرَكَهُ رَأْسًا).
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَاهُ: إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ؛ وَقَالَ فِي نَسَقِ الْآيَةِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَحَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا: أَحَدُهُمَا: إيجَابُهُ عَلَى الْمُحْدِثِ غَسْلَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَإِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهِ؛ وَمُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءِ فَرْضًا مَانِعٌ مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ وَذَلِكَ يُوجِبُ النَّسْخَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْآيَةِ إلَّا بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي إيجَابِ الِاسْتِنْجَاءِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَأَنَّهَا ثَابِتَةُ الْحُكْمِ، وَفِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ قَوْلَ مُوجِبِي الِاسْتِنْجَاءِ فَرْضًا.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} إلَى آخِرِهَا؛ فَأَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلَى مَنْ جَاءَ مِنْ الْغَائِطِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَأَبَاحَ صَلَاتَهُ بِالتَّيَمُّمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنْجَاءٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمِّهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ» فَأَبَاحَ صَلَاتَهُ بَعْدَ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مَعَ تَرْكِ الِاسْتِنْجَاءِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا حَدِيثُ الْحُصَيْنِ الْحَرَّانِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» فَنَفَى الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِ الِاسْتِجْمَارِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَفَى الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِهِ إلَى الْمَاءِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَجَازَ تَرْكَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَمَنْ ادَّعَى تَرْكَهُ إلَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فَإِنَّمَا خَصَّهُ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَسْقُطُ فَائِدَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْفِيَ الْحَرَجَ عَنْ فَاعِلِ الْأَفْضَلِ، هَذَا مُمْتَنِعٌ مُسْتَحِيلٌ لَا يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذْ كَانَ وَضْعًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْتَزِئَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، وَرَوَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: (فَلَا حَرَجَ) عَلَى مَا لَا يُسْقِطُ إيجَابَ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا نَفَى الْحَرَجَ عَمَّنْ لَمْ يَسْتَجْمِرْ وِتْرًا وَيَفْعَلُهُ شَفْعًا، لَا بِأَنْ يَتْرُكَهُ أَصْلًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَتْرُكَهُ إلَى الْمَاءِ لِيَسْلَمَ لَنَا مُقْتَضَى الْأَمْرِ مِنْ الْإِيجَابِ.
قِيلَ لَهُ: بَلْ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَنَسْتَعْمِلُهُمَا وَلَا نُسْقِطُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، فَنَجْعَلُ أَمْرَهُ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَنَهْيَهُ عَنْ تَرْكِهِ عَلَى النَّدْبِ، وَنَسْتَعْمِلُ مَعَهُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ) فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ؛ وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَتْ كَانَ فِيهِ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا، لاسيما إذَا كَانَ خَبَرُنَا مُوَافِقًا لِمَا تَضَمَّنَهُ نَصُّ الْآيَةِ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ وَعَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ تَرْكِهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْمُسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْأَحْجَارِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ فَرْضًا لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ دُونَ الْأَحْجَارِ، كَسَائِرِ الْبَدَنِ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِإِزَالَتِهَا بِالْأَحْجَارِ دُونَ غَسْلِهَا بِالْمَاءِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ النَّجَاسَةِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.